فصل: الخبر عن انتقاض أهل فاس علي أبي يحيي بن عبد الحق

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الخبر عن أمارة عبد الحق بن محيو المستقرة في بنيه

وأمارة ابنه عثمان من بعده ثم أخيه محمد بن عبد الحق بعدهما وما كان فيها من الأحداث لما هلك محيو بن أبي بكر بن حمامة من جراحته كما قلناه وكان له من الولد عبد الحق ووسناف ويحياتن‏.‏وكان عبد الحق أكبرهم فقام بأمر بني مرين وكان خير أمير عليهم قياماً بمصالحهم وتعففاً عما في أيديهم وتقويماً لهم على الجادة ونظراً في العواقب واستمرت أيامهم‏.‏ولما هلك الناصر رابع خلفاء الموحدين بالمغرب سنة عشر وستماية مرجعه من غزاة العقاب وقام بأمر الموحدين من بعده ابنه يوسف المستنصر نصبه الموحدون للأمر غلاماً لم يبلغ الحلم‏.‏وشغلته أحوال الصبا وجنونه عن القيام بالسياسة‏.‏وتدبير الملك فأضاع الحزم وأغفل الأمور‏.‏وتواكل الموحدون بما أرخى لهم من طيل الدالة عليه‏.‏ونفس عن مخنقهم من قبضة الاستبداد والقهر فضاعت الثغور وضعفت الحامية‏.‏وتهاونوا بأمرهم وفشلت ريحهم‏.‏وكان هذا الحي لذلك العهد بمجالات القفار من فيكيك إلى صا وملوية كما قدمناه من شأنهم‏.‏وكانوا يطرقون في صعودهم إلى التلول والأرياف منذ أول دولة الموحدين وما قبلها جهات كرسيف إلى وطاط ويأنسون بمن هنالك من بقايا زناتة الأولى مثل مكناسة بجبال تازى وبني يرنيان من مغراوة الموطنين قصور وطاط من أعالي ملوية‏.‏فيتقلبون بتلك الجهات عام المربع والمصيف وينحدرون إلى مشاتيهم بما امتاروه من الحبوب لأقواتهم‏.‏فلما رأوا من اختلال بلاد المغرب ما رأوا انتهزوا قيها الفرصة وتخطوا إليها القفر ودخلوا ثناياه وتفرقوا في جهاته‏.‏وأرجفوا بخيلهم وركابهم على ساكنه واكتسحوا بالغارة والنهب عامة بسائطهم‏.‏ولجأت الرعايا إلى معتصماتهم ومعاقلهم وكثر شاكيهم‏.‏وأظلم الجو بينهم وبين السلطان والدولة فآذنوهم بالحرب وأجمعوا لغزوهم وقطع دابرهم‏.‏وأغرى الخليفة المستنصر عظيم الموحدين أبا علي بن وانودين بجميع العساكر والحشود من مراكش وسرحه إلى السيد أبي إبراهيم ابن أمير الموحدين يوسف بن عبد المؤمن بمكانه من أمارة فاس‏.‏وأوعز إليه أن يخرج لغزو بني مرين وأمره أن يثخن ولا يستبقي‏.‏واتصل الخبر ببني مرين وهم في جهات الريف وبلاد بطوية فتركوا أثقالهم بحصن تازوطا وصمدوا إليهم‏.‏والتقى الجمعان بوادي نكور فكان الظهور لبني مرين والدبرة على الموحدين‏.‏وامتلأت الأيدي من أسلابهم وأمتعتهم ورجعوا إلى تازى وفاس عراة يخصفون عليهم من ورد النبات المعروف عند أهل المغرب بالمشغلة يوارون به سوءاتهم لكثرة الخصب عامئذ واعتمار وصمد بنو مرين بعدها إلى تازى ففلوا حاميتها أخرى‏.‏ثم اختلفت بنو محمد ورؤساؤهم وانتبذ عنهم من عشائرهم بنو عسكر بن محمد لمنافسة وجدوها في أنفسهم من استقلال بني عمهم حمامة بن محمد بالرياسة دونهم بعد أن كان أومض عندهم منها في عسكر وابنه المخضب إيماض من أخلف بارقه‏.‏فحالفوا عبد الحق أميرهم وقومه إلى مظاهرة أولياء الموحدين وحامية المغرب من قبائل رياح الموطنين بالهبط وأزغار لحديث عهدهم بالتوحش والعز منذ إنزال المنصور إياهم بذلك القطر من إفريقية فتحيزوا إليهم وكاثروهم على قومهم‏.‏وصمدوا جميعاً للقاء بني مرين سنة أربع عشرة ودارت بينهم حرب تولى الصبر مقامها‏.‏وهلك فيها أميرهم عبد الحق وكبير بنيه إدريس‏.‏وتذامر لمهلكها بنو مرين‏.‏وجلى في تلك الحومة حمامة بن يصليتن من بني عسكر والأمير ابن محيو السكمي‏.‏فانكشفت رياح آخراً وقتل منهم أبطال‏.‏وولى بنو مرين عليهم بعد مهلك عبد الحق ابنه عثمان تلو إدريس وشهرته بينهم أدرغال ومعناه برطانتهم الأعور‏.‏وكان لعبد الحق من الولد عشرة تسعة ذكور وأختهم ورتطليم فإدريس وعبد الله ورحو لامرأة من بني علي اسمها سوط النساء وعثمان ومحمد لامرأة من بني ونكاسن اسمها النوار بنت تصاليت وأبو بكر لامرأة من بني تنالفت وهي تاغزونت بنت أبي بكر بن حفص وزيان لامرأة من بني ورتاجن وأبو عياد لامرأة من بني دللو إحدى بطون عبد الواد واسمها أم الفرج ويعقوب لأم اليمن بنت محلى من بطوية‏.‏وكان أكبرهم إدريس الهالك مع أبيه عبد الحق فقام بأمر بني مرين من بعد عبد الحق ابنه عثمان بايعه لوقته حمامة بن يصليتن ولمير بن محيو ومن إليهما من مشيخة قومهما‏.‏واتبعوا مهزمة رياح وأثخنوا فيهم‏.‏وثار عثمان بأبيه وأخيه حتى شفا نفسه منهم ولاذوا بالسلم فسالمهم على أتاوة يؤدونها إليه وإلى قومه كل سنة‏.‏ثم استشرى من بعد ذلك داء بني مرين وأعضل خطبهم وكثر الثوار بالمغرب وامتنع عامة الرعايا عن المغرم وفسدت السابلة‏.‏واعتصم الأمراء والعمال من السلطان فمن دونه بالأمصار والمدن وغلبوا أولئك على الضاحية‏.‏وتقلص ظل الحكام عن البدو جملة‏.‏وافتقد بنو مرين الحامية دون الوطن والدفاع فمدوا إلى البلاد يداً‏.‏وسار بهم أميرهم أبو سعيد عثمان بن عبد الحق في نواحي المغرب يتقرى مسالكه وشعوبه ويضع المغارم على أهله حتى دخل أكثرهم في أمره فبايعه من الطواعن الشاوية والقبائل الآهلة هوارة وزكارة ثم تسول ومكناسة ثم بطوية وفشتالة ثم سدراتة وبهلولة ومديونة‏.‏ففرض عليهم الخراج وألزمهم المغارم وفرق فيهم العمال‏.‏ثم فرض على أمصار المغرب مثل فاس وتازى ومكناسة وقصر كتامة ضريبة معلومة يؤدونها إليه على رأس كل حول على أن يكف الغارة عنهم ويصلح سابلتهم‏.‏ثم غزا ظواعن زناتة سنة عشرين وأثخن فيهم حتى أذعنوا وقبض أيديهم عما امتدت إليه من الفساد والنهب‏.‏وعطف بعدها على رياح أهل أزغار والهبط وأثار به بأبيه فأثخن فيهم وأبادهم‏.‏ولم يزل دأبه ذلك إلى أن هلك باغتيال علجة سنة سبع وثلاثين‏.‏وقام بأمر بني مرين من بعده أخوه محمد بن عبد الحق فتقبل سنن أخيه في تدويخ بلاد المغرب وأخذ الضريبة من أمصاره وجباية المغارم والوضائع من ظواعنه وبدوه وسائر رعاياه‏.‏وبعث الرشيد أبا محمد بن وانودين لحربهم‏.‏وعقد له على مكناسة فدخلها وأجحف بأهلها في المغارم‏.‏ثم نزل بنو مرين بتيجدوغير من ضواحيها فنادى في عساكره وخرج إليهم فدارت بينهم حرب شديدة هلك فيها خلق من الجانبين‏.‏وبارز محمد بن إدريس بن عبد الحق قائداً من الروم واختلفا ضربتين هلك العلج بإحداهما وانجرح محمد في وجهة بالأخرى‏.‏واندمل جرحه فصار أثر في وجهه لقب من أجله أبا ضربة‏.‏ثم شد بنو مرين على الموحدين فانكشفوا ورجع ابن وانودين إلى مكناسة مفلولا‏.‏وبقي بنو عبد المؤمن أثناء ذلك في مرض من الأيام وتثاقل عن الحماية‏.‏ثم أومضت دولتهم آخراً إيماض الخمود‏.‏وذلك أنه لما هلك الرشيد بن المأمون سنة أربعين وستماية وولي أخوه علي وتلقب بالسعيد وبايعه أهل المغرب انصرفت عزائمه إلى غزو بني مرين وقطع أطماعهم عما سمت إليه من تملك الوطن فأغزى عسكر الموحدين لقتالهم ومعهم قبائل العرب والمصامدة وجموع الروم‏.‏فنهضوا سنة اثنتين وأربعين في جيش كثيف يناهز عشرين ألفاً فيما زعموا‏.‏وزحف إليهم بنو مرين بوادي ياباش وصبر الفريقان وهلك الأمير محمد بن عبد الحق في الجولة بيد زعيم من زعماء الروم‏.‏وانكشفت بنو مرين واتبعهم الموحدون ودخلوا تحت الليل فلحقوا بجبال غياثة من نواحي تازى واعتصموا بها أياماً‏.‏ثم خرجوا إلى بلاد الصحراء وولوا عليهم أبا يحيى بن عبد الحق فقام بأمرهم على ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

  الخبر عن دولة الأمير أبي يحيى بن عبد الحق مديل الأمر لقومه بن مرين

وفاتح الأمصار ومقيم الرسوم الملوكية من الآلة وغيرها لمن بعده من أمرائهم لما ولي أبو يحيى بن عبد الحق أمر بني مرين سنة اثنتين وأربعين كان من أول ما ذهب إليه ورآه من النظر لقومه أن قسم بلاد المغرب وقبائل جبايته بين عشائر بني مرين‏.‏وأنزل كلاً منهم في ناحية تسوغها سائر الأيام طعمة‏.‏فاستركبوا الرجل أتباعهم واستلحقوا من غاشيتهم وتوفرت عساكرهم‏.‏ثم نبضت نار المنافسة بين أحيائهم يخالف بنو عسكر جماعتهم وصاروا إلى الموحدين فحرضوهم على أبي يحيى بن عبد الحق وبني حمامة وأغروهم بهم‏.‏وبعثوا الصريخ إلى يغمراسن بن زيان فوصل في قومه إلى فاس‏.‏واجتمعوا جميعاً إلى قائد الموحدين‏.‏وأعطوا الرهن على صدق البلاء في الأمير أبي يحيى وأتباعه‏.‏وصمدوا إليه حتى انتهوا إلى ورغة ثم إلى كرت‏.‏وأعجزهم فانكفوا راجعين إلى فاس‏.‏ونفر يغمراسن بغدر الموحدين فخرج في قومه مع أوليائه بني عسكر‏.‏وعارضهم الأمير أبو يحيى بوادي سبو فلم يطق حربهم ورجع عنهم عسكر الموحدين بما صرخ في معسكرهم من موت الخليفة السعيد‏.‏ثم بعثوا إليهم لملاطفتهم في الفيئة إلى الطاعة ومذاهب الخدمة القائد عنبر الخصي مولى الخليفة في حصة من الروم والناشبة فتقبض عليهم بنو عسكر وتمسكوا بهم في رهنهم‏.‏وقتلوا كافة النصارى فآطلق أبناءهم ولحق يغمراسن وقومه بتلمسان‏.‏ثم رجع بنو عسكر إلى ولاية أميرهم أبي يحيى‏.‏واجتمع بنو مرين لشأنهم وتملكوا الأعمال‏.‏ثم مدوا عينهم إلى تملك الأمصار فنزل أبو يحيى بجملته جبل زرهون‏.‏ودعا أهل مكناسة إلى بيعة الأمير أبي زكرياء بن أبي حفص صاحب إفريقية لما كان يومئذ على دعوته وفي ولايته فحاصرها وضيق عليها بقطع المرافق وترديد الغارات ومعاودة الحرب إلى أن أذعنوا لطاعته فافتتحها صلحاً بمداخلة أخيه يعقوب بن عبد الحق لزعميها أبي الحسن بن أبي العافية‏.‏وبعثوا بيعتهم إلى الأمير أبي زكرياء وكانت من إنشاء أبي المطرف بن عميرة وكان قاضياً فيهم يومئذ فأقطع السلطان ليعقوب ثلث جبايتها‏.‏ثم أحس الأمير أبو يحيى بن عبد الحق من نفسه الاستبداد ومن قبيله الاستيلاء فاتخذ الآلة‏.‏وبلغ الخبرإلى السعيد بتغلبه على مكناسة وصرفها إلى دعوة ابن أبي حفص فوجم لها وفاوض الملأ من أهل دولته في أمره وأراهم كيف اقتطع الأمر عنهم شيئاً فشيئاً فابن أبي حفص اقتطع إفريقية‏.‏ثم يغمراسن بن زيان وبنو عبد الواد اقتطعوا تلمسان والمغرب الأوسط وأقاموا فيها دعوه أبن أبي حفص وأطمعوه في الحركة إلى مراكش بمظاهرتهم‏.‏وابن هود اقتطع عدوة الأندلس وأقام فيها دعوة بني العباس وابن الأحمر في الجانب الآخر مقيم لدعوة ابن أبي حفص‏.‏وهؤلاء بنو مرين تغلبوا على ضواحي المغرب ثم سموا إلى تملك الأمصار‏.‏ثم افتتح أميرهم أبو يحيى مكناسة وأظهر فيها دعوة ابن أبي حفص وجاهر بالاستبداد‏.‏ويوشك إن رضينا هذه الدنية وأغضينا عن هذه الواقعات أن يختل الأمر أو تنقرض الدعوة‏.‏فتدامروا وامتعضوا وتداعوا للصمود إليهم فجهز السعيد عساكره‏.‏واحتشد عرب المغرب وقبائله واستنفر الموحدين والمصامدة ونهض من مراكش سنة خمس وأربعين يريد مكناسة وبني مرين أولاً ثم تلمسان ويغمراسن ثانياً ثم إفريقية وابن أبي حفص آخراً‏.‏واعترض العساكر والحشود بوادي بهت‏.‏ووصل الأمير أبو يحيى إلى معسكره متوارياً عنهم عيناً لقومه حتى صدقهم كنه الخبر‏.‏وعلم أن لا طاقة له بهم فأفرج عن البلاد‏.‏وتنافر بنو مرين بذلك من أماكنهم فتلاحقوا به واجتمعوا إليه بتازوطا من بلاد الريف‏.‏ونزل سعيد مكناسة‏.‏ولاذ أهلها بالطاعة وسألوا العفو عن الجريرة‏.‏واستشفعوا بالمصاحف برز بها الأولاد على رؤوسهم وانتظموا مع النساء في صعيد حاسرات منكسرات الطرف من الخشوع ووجوم الذنب والتوسل‏.‏فعفا عنهم وتقبل فيئهم وارتحل إلى تازى في إتباع بني مرين‏.‏وأجمع بنو أوطاس الفتك بأبي يحيى بن عبد الحق غيرة ومناسفة ودس إليه بذلك مهيب من مشيختهم فترحل عنهم إلى بلاد بني يزناسن ونزل بعين الصفا‏.‏ثم راجع نظره في مسالمة الموحدين والفيئة إلى أمرهم ومظاهرتهم على عدوهم يغمراسن وقومه من بني عبد الواد ليكون فيها شفاء نفسه منهم فأوفد مشيخة قومه عليه بتازى فأدوا طاعته وفيئته فتقبلها وصفح لهم عن الجرائر التي أتوها‏.‏وسألوه أن يستكفي بالأمير أبي يحيى في أمر تلمسان ويغمراسن على أن يمده بالعساكر رامحة وناشبة فاتهمهم الموحدون وحذروا منهم غائلة العصبية فأمرهم السعيد بالعسكرة معه فأمده الأمير أبو يحيى بخمسماية من قبائل بني مرين‏.‏وعقد عليهم لابن عمه أبي عياد بن يحيى بن أبي بكر بن حمامة وخرجوا تحت رايات السلطان‏.‏ونهض من تازى يريد تلمسان وما وراءها وكان من خبر مهلكه على جبل تامززدكت بيد بني عبد الواد ما ذكرناه في أخبارهم‏.‏ولما هلك وانفضت عساكره متسابقين إلى مراكش وجمهورهم مجتمعون إلى عبد الله بن الخليفة السعيد ولي عهده وتحت رايات أبيه‏.‏وطار الخبر بذلك إلى الأمير أبي يحيى بن عبد الحق وهو بجهات بني يزناسن‏.‏وقد خلص إليه هنالك ابن عمه أبو عياد‏.‏وبعث بني مرين من تيار تلك الصدمة فانتهز الفرصة وأرصد لعسكر الموحدين وفلهم بكرسيف فأوقع بهم وامتلأت أيدي بني مرين من أسلابهم وانتزعوا الآلة من أيديهم‏.‏وأصار إلى كتيبة الروم والناشبة من الغزو واتخذ الموكب الملوكي‏.‏وهلك الأمير عبد الله بن السعيد في جوانب تلك الملحمة ويئسوا للموحدين بعدها من الكرة‏.‏وفهض الأمير أبو يحيى وقومه إلى بلاد المغرب مسابقين إليه يغمراسن بن زيان بما كان ملوك الموحدين أوجدوهم السبيل إلى ذلك باستجاشة على بني مرين أيام فتنتهم معهم فكانوا يبيحونه حرم المغرب ويوطئونه عساكر قومه ما بين تازى إلى فاس إلى القصر مع عساكر الموحدين فكان ليغمراسن وقومه بذلك طمع فيها لولا ما كبحهم فأس بني مرين وجذع من أنوفهم‏.‏وكان أول ما بدأ به أبو يحيى بن عبد الحق أعمال وطاط فافتتح حصونهم بملوية ودوخ جبلهم‏.‏ثم رحل إلى فاس وقد أجمع أمره على انتزاعها من ملكة بني عبد المؤمن وإقامة الدعوة لابن أبي حفص بها وبسائر نواحيها‏.‏والعامل بها يومئذ السيد أيو العباس فأناخ عليها بركابة‏.‏وتلطف في مداخلة أهلها وضمن لهم جميل النظر وحميد السياسة‏.‏وكف الأيدي عنهم والحماية لهم بحسن المغبة وصالح العائلة فأجابوه ووثقوا بعهده وعنائه‏.‏وأووا إلى ظله وركنوا إلى طاعته وانتحال الدعوة الحفصية بأمره‏.‏ونبذوا طاعة بني عبد المؤمن يأسا من صريخهم وكثرتهم‏.‏وحضر أبو محمد الفشتالي وأشهده الله على الوفاء بما اشترط على نفسه من النظر لهم والذب عنهم وحسن الملكة والكفالة‏.‏وتقبل مذاهب العدل فيهم فكان حضوره ملاك تلك العقيدة والبركة التي يعرف أثرها خلفهم في تلك البيعة‏.‏وكانت البيعة بالرابطة خارج باب الفتوح‏.‏ودخل إلى قصبة فاس لشهرين اثنين من مهلك السعيد فاتح ست وأربعين‏.‏وأخرج السيد أبا العباس من القصبة وبعث معه خمسين فارساً أجازوه أم ربيع ورجعوا‏.‏ثم نهض إلى منازلة تازى وبها السيد أبو علي‏.‏فنازلها أربعة أشهر‏.‏ثم نزلوا على حكمه فقتلهم ومن على آخرين منهم‏.‏وسد ثغرها وثقف أطرافها وأقطع رباط تازى وحصون ملوية لأخيه يعقوب بن عبد الحق‏.‏ورجع إلى فاس فوفد عليه بها مشيخة أهل مكناسة وجددوا بيعتهم وعاودوا طاعتهم‏.‏ولحق بهم على أثرهم أهل سلا ورباط الفتح فتملك الأمير أبو يحيى هذه البلاد الأربعة أمهات أمصار المغرب‏.‏واستولى على نواحيها إلى وادي أم ربيع فأقام فيها دعوة ابن أبي حفص وبعث بها إليه‏.‏واستبد بنو مرين بملك المغرب الأقصى وبنو عبد الواد بملك المغرب الأوسط وبنو أبي حفص بإفريقية‏.‏وخمد ذبال آل عبد المؤمن وركدت ريحهم وآذنت بالانقراض دولتهم وأشرف على الفناء أمرهم‏.‏وإلى الله عاقبة الأمور‏.‏

  الخبر عن انتقاض أهل فاس علي أبي يحيي بن عبد الحق

وظفره بهم بعد إيقاعه بيغمراسن وقومه بايسلى لما ملك الأمر أبو يحيى بن عبد الحق بمدينة فاس سنة ست وأربعين استولى على بلاد المغرب بعد مهلك السعيد‏.‏وقام بأمر الموحدين بمراكش أبو حفص عمر المرتضى بن السيد أبي إبراهيم إسحاق الذي كان قائد عسكر الموحدين في حربهم مع بني مرين عام المشغلة ابن أمير المؤمنين أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن‏.‏كان السعيد تركه والياً بقصبة رباط الفتح من سلا فاستدعاه الموحدون وبايعوه بيعة الخلافة‏.‏وقام بأمرهم فلما تغلب الأمير أبو يحيى على بلاد المغرب وملك مدينة فاس كما ذكرناه خرج إلى بلاد فازاز والمعدن لفتح بلاد زناتة وتدويخ نواحيها‏.‏واستعمل على فاس مولاه السعود بن خرباش من جماعة الحشم أحلاف بني مرين وصنائعهم‏.‏وكان الأميرأبو يحيى استبقى بها من كان فيها من عسكر الموحدين من غير عيصهم في السبيل التي كانوا عليها من الخدمة‏.‏وكان فيهم طائفة من الروم استخدمهم إلى نظر قائدهم شأنه وكانوا من حصة السعود هنالك‏.‏ووقعت بينهم وبين شيع الموحدين من أهل البلد مداخلة وفتكوا بالسعود عاملهم وقلبوا الدعوة للمرتضى الخليفة بمراكش سكيت الحلبة ومخلف المضمار‏.‏وكان المتولي لكبر تلك الثورة بن حشار المشرف وأخوه وابن أبي طاطو وابنه اجتمعوا إلى القاضي أبي عبد الرحمن المغيلي زعيم فئة الشورى بينهم يومئذ وتوامروا فيها‏.‏وأغروا قائد الروم بقتل السعود وعدوا عليه بمقعد حكمه من القصبة وهاجوه ببعض المحاورات فغضت‏.‏ووثب عليه الرومي فقتله وطاف برأسه الهاتف بسكك المدينة في شؤال سنة سبع وأربعين‏.‏وانتهبت داره واستبيحت حرمه‏.‏ونصبوا قائد الروم لضبط البلد وبعثوا بيعتهم إلى المرتضى‏.‏واتصل الخبر بالأمير أبي يحيى وهو منازل بلد فازازة فأفرج عنها‏.‏وأغذ السير إلى فاس فأناخ بعساكره عليها‏.‏وشمر لحصارها وقطع السابلة عنها‏.‏وبعثوا إلى المرتضى بالصريخ فلم يرجع إليهم قولاً ولا ملك لهم ضراً ولا نفعاً ولا وجه لما نزل بهم وجهاً‏.‏حاشا إنه استجاش بالأمير أبي يحيى يغمراسن بن زيان على أمره وأغراه بعدوه وأمله لكشف هذه النازلة عمن انحاش إلى طاعته‏.‏وتعلقت أطماع يغمراسن بطروق بلاد المغرب فاحتشد لحركته‏.‏ونهض من تلمسان للأخذ بحجزة الأمير أبي يحيى عن فاس وإجابة صريخ الخليفة لذلك‏.‏وبلغ الأمير أبا يحيى خبر نهوضه إليه لتسعة أشهر من منازلته البلد فجمر الكتائب عليها‏.‏صمد إليه قبل وصوله من تخوم بلاده والتقى الجمعان بإيسلى من بسائط وجدة فتزاحف القوم وأبلوا‏.‏وكانوا ملحمة عظيمة هلك فيها عبد الحق محمد بن عبد الحق بيد إبراهيم بن هشام من بني عبد الواد‏.‏ثم انكشف بنو عبد الواد وهلك يغمراسن بن تاشفين من أكابر مشيختهم ونجا يغمراسن بن زيان إلى تلمسان‏.‏وانكفأ الأمير أبو يحيى إلى معسكره للأخذ بمخنق فاس فسقط في أيدي أهلها ولم يجدوا وليجة كل يرون طاعته فسألوا الأمان وبذله لهم على غرم ما تلف له من المال بداره يوم الثورة وقدره ماية ألف دينار فتحملوها‏.‏وأمكنوه من قياد البلد فدخلها في جمادى من ثمان وأربعين‏.‏وطالبهم بالمال فعجزوا ونقضوا شرطه فحق عليهم القول‏.‏وتقبض على القاضي أبي عبد الرحمن وابن أبي طاطو وابنه وابن حشار وأخيه المتولين كبر الفعلة فقتلهم ورفع على الشرفات رؤوسهم‏.‏وأخذ الباقين بغرم المال طوعاً أو كرهاً فكان ذلك مما عبد رعية فاس وقادهم لأحكام بني مرين‏.‏وضرب الرهب على قلوبهم لهذا العهد فخشعت منهم الأصوات وانقادت الهمم ولم يحدثوا بعدها أنفسهم بغمس يد في فتنة‏.‏والله مالك الأرض ومن عليها‏.‏

  الخبر عن تغلب الأمير أبي يحيى علي مدينة سلا وارتجاعها من يده

وهزيمة المرتضي لما كمل للأمير أبي يحيى فتح مدينة فاس واستوسق أمر بني مرين بها رجع ما كان فيه من منازلة بلاد فازاز فافتتحها‏.‏ودوخ أوطان زناتة واقتضى مغارمهم وحسم علل الثائرين فيها‏.‏ثم تخطى إلى مدينة سلا ورباط الفتح سنة تسع وأربعين فملكها وتاخم الموحدين بثغرها‏.‏واستعمل عليها ابن أخيه يعقوب بن عبد الله بن عبد الحق وعقد له على ذلك الثغر وضم إليه الأعمال‏.‏وبلغ الخبربذلك إلى المرتضى فأهمه الشأن‏.‏وأحضر الملأ من الموحدين وفاوضهم واعتزم على حرب في مرين‏.‏وسرح العساكر سنة خمسين فأحاطت بسلا فافتتحوها وعادت إلى طاعة المرتضى‏.‏وعقد عليها لأبي عبد الله بن أبي يعلو من مشيخة الموحدين‏.‏وكان المرتضى قد صمد بنفسه سنة تسع وأربعين إلى محاربة بني مرين في جموع الموحدين وعساكر الدولة صمد بنو مرين للقائه‏.‏والتقى الجمعان بإيملولين ففضوا جموعه وأجمع الدبرة عليه والظهور لهم‏.‏ثم كان بعدها فتح سلا وغلب الموحدين عليهما‏.‏وأجمع المرتضى بعدها على احتشاد أهل سلطانه ومعاودة الخروج بنفسه إلى غزوهم لما خشي من امتداد أمرهم‏.‏وتقلص ملك الموحدين فعسكر خارج حضرته سنة ثلاث وخمسين وبعث الحاشرين في الجهات فاجتمع إليه أمم الموحدين والعرب والمصامدة‏.‏وأغذ السير تلقاءهم حتى إذا انتهى إلى جبال بهلولة من نواحي فاس وصمد إليه الأمير أبو يحيى في عساكر بني مرين ومن اجتمع إليهم من دونهم‏.‏والتقى الجمعان هنالك‏.‏وصدقهم بنو مرين القتال فاختل مصاف السلطان وأنهزمت عساكره وأسلمه قومه‏.‏ورجع إلى مراكش مفلولا‏.‏واستولى القوم على معسكره واستاحوا سرادقه وفساطيطه وانتهبوا جميع ما وجدوا بها من المال والذخيرة واستاقوا سائر الكراع والظهر وامتلأت أيديهم من الغنائم واعتز أمرهم وانبسط سلطانهم وكان يوماً له ما بعده‏.‏وأغرى أثر هذه الحركة عساكر بني مرين تادلا وإستباح بني جابر حاميتها من جشم ببلد أبي نفيس واستلحم أبطالهم وألان من حدهم وخضد من شوكتهم‏.‏وفي أثناء هذه الحروب كان مقتل علي بن عثمان بن عبد الحق وهو ابن أخي الأمير أبي يحيى‏.‏شعر منه بفساد الدخلة والاجتماع للتوثب به فدس لابنه أبي حديد مفتاح بقتله بجهات مكناسة سنة إحدى وخمسين‏.‏والله تعالى أعلم‏.‏

  الخبر عن فتح سجلماسة وبلاد القبلة وما كان في ذلك من الأحداث

لما يئس بنو عبد المؤمن من غلبهم بني مرين على ما صار في أيديهم من بلاد المغرب وعادوا إلى مدافعيهم عن صبابة الدولة التي تحلبت إليها شفاههم لو أطاقوا المدافعة عنها وملك بنو مرين عامة بلاد التلول اعتزم الأمير أبو يحيى بعدها على الحركة إلى بلاد القبلة لفتح سجلماسة ودرعة وما إليها سنة ثلاث وخمسين فافتتحها بمداخلة من ابن القطراني‏.‏غدر بعامل الموحدين فتقبض عليه وأمكن منها الأمير أبا يحيى فملكها وما إليها من درعة وسائر بلاد القبلة‏.‏وعقد عليها لابنه أبي حديد‏.‏وبلغ الخبرإلى المرتضى فسرح العساكر سنة أربع وخمسين لاستنقاذها‏.‏وعقد عليهم لابن عطوش من مشيخة الموحدين فأغذ الأمير أبو يحيى السير إليها وابنه أبو حديد مفتاح‏.‏وأحس به ابن عطوش ففر راجعاً إلى مراكش‏.‏ثم نهض سنة خمس وخمسين إلى محاربة يغمراسن‏.‏ولقيه بأبي سليط فأوقع‏.‏به واعتزم على اتباعه فثناه عن رأيه في ذلك أخوه يعقوب بن عبد الحق لعهد تأكد بينه وبين يغمراسن فرجع‏.‏ولما انتهى إلى المقرمدة هذه بلغه أن يغمراسن قصد سجلماسة لمداخلة من بعض أهلها‏.‏أطمعه في ملكها فأغذ السير إليها بجموعه ودخلها‏.‏ولصبيحة دخوله وصل يغمراسن لشأنه‏.‏فلما علم‏.‏بمكان أبي يحيى من البلد سقط في يديه ويئس من غلابه ودارت بينهم حرب تكافيا فيها‏.‏وهلك سليمان بن عثمان بن عبد الحق ابن أخي الأمير أبي يحيى‏.‏وانقلب يغمراسن إلى بلده‏.‏وعقد الأمير أبو يحيى على سجلماسة ودرعة وسائر بلاد القبلة ليوسف بن يزكاسن‏.‏واستعمل على الجباية عبد السلام الأوربي وداود بن يوسف‏.‏وانكفأ راجعاً إلى فاس‏.‏والله